| 0 التعليقات ]


إنّ ميلَاد وأطوار حياة الأمم والمُجتمعات مبنيٌّ على نسيجٍ ضخم من الأفكار والسّلوكيات! تتقدّم أو تتأخر وفقًا لحالة المُجتمَع الحضَاريّة والمدنيّة. وَفي خضمّ هذه الحركات الفكريّة والتّغيرّات الإجتماعية كانتِ الأمراضُ الأخلاقية والأوبئة السّلوكية.
والمتأمّل في حالِ الفكر في العالم الإسلامي اليوم يجدُ أنّه تحوّل- أو يكاد - من مصدر قوةٍ وإلهام نهضوي إلى حفرة شقاق وجمودٍ عقلي! وعلى الرّغم من أنّه يملك المرجعيّة الهادية النّقية لكنْ يبدو أن منهج تعامله مع الفكرة يعاني الأزمة التي رمت به إلى التحول البغيض! لذا فقد بات مهمًا التّفحص في الحال الفكري وإعادة النظر برؤية شاملة وعين فاحصة فنراجع الخطو والمنهج ونلقي الضوء على المشكل وأسبابه وإنعكاساته!
ولعل أخطر الأوبئة الفكرية حقيقة هي "شخصنة الفكرة" -بمعنى أوضح- "انسياب الأفكار إلى الأشخاص التي تمثل رمزا في المجتمع الإنساني أو الفكري"!

فما حقيقة المشكلة؟
ما أبرز انعكاساتها على الفرد والمجتمع وما أهم مظاهرها في العالم الإسلامي؟
هل هي السبب في قلب خلافاتنا الفكرية الموضوعية إلى معارك شخصية؟
يا ترى هل وجود الشخص الرمز الذي تتجسّد فيه الفكرة يعود بفائدة أم هو سبب لتأخر الكثيرين في التسليم بالمسألة الفكرية؟
ما موقف المرجعيّة الإسلامية من هذه الظاهرة؟
ما الأسباب التي تفسر انتصار الأشخاص على الأفكار؟ هل ذلك لأن الفكرة تحتاج جهدا أكبر لقبولها والإستفادة منها -وفي الغالب- لا يستفاد منها حسيا وماديا مباشرة؟
ما هي مهارة تجاوز الشخصنة؟ قصّة موسى عليه السّلام كيف ومتى؟
وختاما! هل من سبيل لمعالجة لبتر هذه المشكلة من أوساطنا؟


ماهيّة شخصنة الفكرة ::

قبل الخوض في التّعاريف والمفاهيم المطوّلة، لنأخذ مثالًا بسيطا توضيحيًا لمعالم هذه القضية :
(1) ما قبل الشّخصنة :
الطفل الصّغير يعمد إلى عالم الملموس، يمارس إستدلالاته على مقاييس حسيّة من خلال الأشياء فمثلا : "هذا كبير .. لابد وأنّه قوي"، " هذا ملوّن وجميل أكيد أنّه لذيذ " وهذا "أنيابه بارزة ومخالبه طويلة .. بالتّأكيد مخيف ومرعب" !! وهكذا سلسلة من الإستنتاجات والإستدلالات وكثيرًا ما تُعتمد في الأفلام الكرتونية والمسلسلات الرسومية للصّغار فـ "البطل سوبرمان ذو المعجزات الخارقة .. أو دراغون بول صاحب القضبة الخرافية .. أو داي مالك السّيف النّاري"، لكن إذا ما تقدّم هذا الطفل في السّن وتغيّر احتكاكه إلى ما هو أكبر عدّل طريقة التفكير والمنطق والإستدلال وفق مقاييس ذاتية فيدرك حينها أنّ الكبير ليس بالضرورة قويا!
(2) الشّخصنة :
وتجلو هذه المشكلة أول ما يرتبط هذا الشّخص برمز، فرضًا لو ضللت يومًا بكامله ألح على أخي الصغير صاحب العشر سنين بضرورة قراءة ورد قرآني يومي لما أصغى لي بينما لو رأى لاعبه المفضل "عنتر يحيي" ممسكا المصحف وهو راجع على متن الطائرة - مع أنّه خارج عن إطار تخصصه- لقام بنفس الشّيء، وأبسط مثال واقعي أنه رفض صيام رمضان بحجة الجوع بينما صام أربعاء أم درمان لتتأهل الجزائر للمونديال!!
فقيمة الفكرة في ذي الحالة تكتسب جودة قبولها من قائلها -أي الرمز- الشّيء الكثير بمعنى أنّ الرمز (عنتر) قيمته أعلى وأكبر بشرط أنّه قد حاز أوّلا على ثقة الفرد (أخي) وحبه له!

إذن فهي تحويل الفكرة من فكرة مجرّدة إلى فكرة مجسّدة متمحورة في شخص بذاته سلبًا أو إيجابًا! أو ربط الفكرة بأمور شخصيّة خارجة عن موضوعها ومنهجيّتها وأصولها وأدلّتها كالعواطف الإنسانية والمشاعر الحسّية والمصالح السياسية والرؤى المذهبية.
وهي أيضًا تحويل الفكرة من مبادئ وأصول وبراهين ومناهج تنطلق منها وتفهم من خلالها إلى فكرة تدور حول إلى شخص معين منه تبدأ وإليه تنتهي -هذا وإن استقام مع الأنبياء عليهم أفضل الصلوات وأتم التسليم فقد عصمهم الله سبحانه وتعالى في جميع أحوالهم أما عداهم فلا يستقيم معهم فأقوالهم معرضّة للخطأ والصّواب ولا أحد من خلق الله إلا ويؤخذ من كلامه ويرد إلا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم. [ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ]

والفكرة في تعريف ( لسان العرب ) "إعمال الخاطر في الشيء" وفي ( المعجم الوسيط "الفكر والصورة الذهنية لأمر ما" فهي بطبيعتها أمرٌ معنوي مجرد لا ترتبط بشخص أو شيء خارجها إلا على النّحو الذي يساعد على فهمها وتفسيرها فقط!
فإذا اتصلت الفكرة الفكرة بعالم الأشخاص أو بعالم الأشياء فإنّها لن تأتي في أغلب الحالات بحضارة حقيقية إلا إذا ظلت منفصلة في الوعي عن الأشخاص، لا تموت بموتهم، ولا تتقلب مع تقلباتهم، وتبقى هي الحكم عليهم والميزان الذي توزن به أعمالهم.

"قد يموت شخص، وقد تنهض الأمم أو تتقوض، لكن الفكرة تستمر في الحياة؛ فالأفكار لا تنتهي صلاحيتها".
جون كنيدي

لكن! تجسيد الفكرة في فرد بعينه لا يمثل بالضرورة وجود داءٍ على الفكرة وطبيعتها المجردة بل قد يكون في ثمثيلها وتجسيدها وتمحورها في قالب الرّمز إضاءة مشرقة قويّة باعتبار حاملها يقوم مقام القدوة والأسوة التي توحي وتبرهن على قدرة وإمكانية تطيبق الفكرة وتحقيقها، إنّما الخطورة والخطأ والوباء يكمن في وعي الناس حين يتم الخلط بين الفكرة المجردة والشّخص الذي تمحورت فيه الفكرة! فتغدو الفكرة طوع تصرفات الإنسان الرمز تعرف به وتنتهي بتخليه عنها أو موته!
فهنا المشكل..!

وشخصنة الفكرة هي الإرتباط بشخص (إنسان) أو معنى ( حركة، جماعة، حزب، مؤسسة ..) ولا يشترط أن يكون الشّخص حيّا! فقد يكون موت الإنسان -بالأخص استشهاده- سبب تقديس الأفكار وجعلها المعيار للحياة! ويعتبر المخالف لرأيه ومنهجه أو المنقص برمزه عدوا وخارجا على الفكر الصحيح!!

0 التعليقات

إرسال تعليق