| 0 التعليقات ]


تحدّثنا في الجزء الأول عن مشكلة "شخصنة الفكرة" والخلط بين الشخصية والفكرة في صورة عملة بوجهين فيكون "رمزها" -الشّخص الرّائد فيها، المؤمن بها ..- يملك كل صلاحيات إحتفاظه بهذا العمل -وهذا حقه الشرعي والإجتماعي- لكن الأزمة تتجلّى حين تأخذ الفكرة مسار الشخص فتغدو هي الشخص والشخص هو الفكرة! وهذا ليس من العدل بحال لا للفكرة ولا لـ"رمزها" ولا حتّى لمعتنقيها فهذا يضيّق الفكرة ويحجمها في جسد الرمز فتخرج عن هدفها المرجو الذي أنجبت من أجله، وربّما هذا قد يجعل الكثير من معتنقيها "العقلاء" إعادة النظر فيها طالما أنها أصبحت دعوة شخص لا مسألة مبدأ!

مظاهر الشّخصنة :

ويبدو أن الكثير منّا يعتقد أن موضوعنا الذي نحن بصدد معالجته ( مرض الشخصنة ) أنه مرتبط بعالم المسلمين وحده لكن الحقيقة هي أنّ ( الشّخصنة ) تظهر بشكل تحد طاغ يتفشى نتنه إلى عتبات الواقع الإجتماعي وعفن تعاني منه القرية العالمية أجمع لكن بنسب متفاوتة!
بنظرة بسيطة للعالم الغربي تدرك أنه يجعل ذاته ويعتقد أنه محور العالم ومركزه، ولا حقّ لغيرهم في سيادة الكرة الأرضية، والحكمة عندهم متجسدة في الرّجل الأبيض! وأن أفكاره هي المعيار لما ينتجه العالم من أفكار! بل ربما لا اعتبار ولا وجود للآخر حتّى يثبته الغرب!!
وأيضًا، الجنس اليهودي وما يتعلق بكونهم شعب الله المختار، والدّاء الذي تأصل فيهم بأنّ الله اصطفاهم من دون خلقه وفضّلهم على العالمين لا لصفات موضوعية إيمانية إنّما لذواتهم! فيحرمون الظلم وسوء الخلق بينهم فقط ويحلونه في تعاملهم مع غيرهم بحجة " لَيسَ عَلَينَا فِي الأُمّيينَ سَبِيل" ( آل عمران 75 ) فكانت المبادئ والقيم مرتبطة بذواتهم هم المعيار عليها لا هي الميزان عليهم!!
العالم الإسلامي بالرغم من أنّه يملِك مقومات التميّزِ الفكري في كلام الله - القرآن - إلّا أنه يَئنّ هو الآخر تحت وطأة هذا الدّاء، وتجلّى ذلك فيما يلي :

الجمودُ والتّقليد:
وتبرز خاصّة في الرّبط بين "أخلاق الأولين وتقواهم" و "التّهيب من مخالفتهم في أفكارهم" ولو علم المقلدون أو الدّاعون إلى التّقليد أن الأفكار ليست وليدة البرّ والتقوى والتقارب الزمني من عصر الرّسول _صلّى الله عليه وسلم_ فقط! إنما هي نتاج عوامل مختلفة تتأثر بالوسط الإجتماعي! لا أعني بهذا الإنخلاع من تعاليم السّابقين الأوّلين لكنّهم على عظم قدرهم وسموّ فكرهم يخطؤون ويصيبون فلا أحد معصوم إلا نبيّ الإسلام محمد عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم!
أليس لنا الحق في النّظر إلى الفتاوى القديمة؟ مراعين بذلك الظروف والأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة!!
ولو علم الأولون أنّ أفكارهم ستكون محور تقديس ومركز شخصنة قد يفوت الكثير من مصالح المسلمين، هل كانوا ليرضوا أن توضوع أفكارهم هذا الموضع؟ وهم الذين نشدوا مصالح الدنيا والآخرة للمسلمين فيما لا يخالف نصوص الشريعة ومقاصدها!
فقط نظرة تعقّل يا حكماء!

ضالّة المؤمن بين الحكمة المجرّدة والفكرة المجسّدة:
فعل الرّغم من أنّ الإسلام أوصانا -بل أمرنا- بإتباع الحكمة المجردة من أي نبع أتت "الحِكْمَةُ ضَالّةُ المُؤمِن فَحَيثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أحَقُ بِهَا" -الترمذي- لَكّننا أتينا على الفكرة المجسّدة وجعلناها ضالتنا وهدفنا، فشخّصنا فكرة الإصلاح -على سبيل المثال- وبتنا ننتظر المهدي ولا ندري أسيأتي من السّماء بباراشوت، أسيكون قائدًا حربيًا؟ أم زعيمًا سياسيًا؟ أو ربمَا هاكرًا انترنتيًا !! وننتظر صلاح الدين وأي بطن ستنجبه، في أي مدرسة سيكون؟ هل سيدرس في الكتاب؟ .. إنشغلنا بالأشخاص عن القيمة نفسها وبالأماني عن العمل! وبالتقليد عن الإبداع، وبالقعود والإنتظار عن النفير والجهاد!

من الخلاف الفكري إلى الصّراع الشّخصي:
ويستخدم فيها كلا الطّرفين جميع أنواع أسلحة الدّمار الشّامل المُحرّمة فكريّا في تثبيط معنويات المختلفين دفاعا عن الزعماء وأصحاب الفكرة! تكفيك فقط نظرة واحدة أو هنيهة من الزمن على عدد من البرامج الحوراية لتعرف مدى ما وصلنا إليه من انحدار في كيفية إدارة الحوار حتى لا يكاد ينتهي الحوار الهادئ -أو المفروض أن يكون هادئًا- إلا وقد تعارك المتحاورون بالأيدي قبل الألسنة! "وروح شوف يا ابني الإتجاه المعاكس بالجزيرة!"
“العقول العظيمة تناقش الأفكار ، ومتوسطي العقول يناقشون الأحداث ، العقول الصغيرة تناقش الأشخاص”.

غياب الفكر المؤسسي:
أصبحت الشخصنة سمة أساسية، ليس في فكرنا وحده، بل في حياتنا العملية كذلك، فغاب الفكر المؤسسي وماتت أفكار بموت أصحابها، وتبعثرت جهودنا العلمية والفكرية لعدم وجود مؤسسات تقوم بالرعاية والإشراف عليها! وإذا وجدت المؤسسات تشخصنت قيادتها، وتشخصنت معايير الالتحاق بها حتى بات المعيّنون فيها من أهل الثقة والقرابة لا من أهل القدرة والكفاءة والأمانة، وإذا تغير القائد أو المدير تغيرت كل السياسات والأفكار بل وتغير الأشخاص، حتى وصلنا إلى «شخصنة الدولة» نفسها! وصار سيّد ببلدي "يبني" واللي بعده "يهدم"! والله يجيب الخير!

0 التعليقات

إرسال تعليق