| 0 التعليقات ]



وأخيرًا بعدما طال به اللف من شركةٍ لأخرى حاملًا شهاداته الجامعية وأحلامه وطموحاته إستطاع -وفي سابقة فريدة- الحصول على وظيفة حكومية ليلج بعدها عالمًا جديدا مليئا بالغرابة، ابتلع سخرية موظفة الإستقبال بخلطة ألوانها وساعد المسؤول عن استلام أوراق عمله في تجاوز معضلة أمام الكلمات المتقاطعة! يكفيه أنه استطاع الخروج من تلك العقبات ليضحي موظفا حكوميا خالصا نقيا بلا مواد صناعية ولا محاليل كيماوية.

وهو يدخل المكتب في تلك المؤسسة الحكومية حيث أربع مكاتب بثلاث موظفين جعلته يدرك مباشرة دون مساعدة أي شخص، أو حذف إجابات ولا حتى الإتصال بصديق بأنه الموظف الرابع في تلك الغرفة المكتظة بالأرفف والأوراق القديمة ودخان السيجارة الذي يتعالى أمام ذلك الشّيخ الأصلع، حاول إستيعاب الموقف والتّعود عليه.

مرّت خمس سنوات، تسكنه ملامح التّعاسة والملل، لا يقوى على دمج دماغه في عمليات تفكير جادة ولا على الولوج في نقاشات عقلية، لا تهمه مصالح البلد الذي يعيش فيه مع أنه وطنه! يطالع الجريدة حتى العاشرة ويحتسي فنجانا من القهوة يدعي "الوطنية" ويهتف مع المصفقين/ المصطفقين بشعارات مزيفة "يحيا الوطن" وفي ذات الوقت لا يشعر بأدنى المسؤولية والواجبات تجاهه. هل هذا بسبب أعماله البسيطة اليومية الروتينية؟ أعمال أضحت لا تتطلب فهمًا أو مهارة، يختم الأوراق، يصنفها ويجمعها ويختمها وهكذا إلى أن تنتهي أوراقه اليومية وبالغد تنتظره أوراقٌ أخر ليجمعها ويرتبها، يصاحبها دخان سيجارة الزّميل ونكهة القهوة التي يشتريها من "الكفيتريا" المجاورة التي تثقب المعدة من رداءتها، لا ينطق، لا يضحك، لا يحزن ويعدم وجهه التعابير فيحتفظ بالجمود واللامبالاة.

إنّه رجل وقع في الإغتراب، ففقد معه القدرة على الخلق والإبداع، فقد كل مزاياه الإنسانية خصوصا تلك العقلية وأعاق عمله البسيط نموه العقلي، لم يعد قادرا على التأمل ولا على الحلم ولا على الإنشغال بالحرية، إنّما أضحى همه الوحيد إشباع رغباته البيولوجية من أكل ونوم، وخسفت أحلامه إلى أن جعلته يركض خلف غرائزه ويسعى إلى اشباع شهواته، يجب عليه أن يعمل، يعمل ليعيش ويقتات ويتحصل على ضروريات مادية تبقيه على قيد الحياة.

أي حياة تافهة يعيشها صاحبنا؟ ومن يصدّق أنّه كان في الماضي يحمل على كاهليه الأحلام الجسام ويرى أن المتعة الجسدية تمثل أدنى مستويات الحياة بينما قمة السّعادة تكمن في التفكّر والتجريد؟!

تبتتدأ حياة صاحبنا حين يقابل أصدقاءه المتعبين كحاله في مقهى شعبي ويدخن تبغا رديئا حسب راتبه الشّهري وتتقلّص حياته في بضع ساعات تبتدئ بعد أن يتمّ عمله!

لماذا يعمل؟ هل يحقق بذلك ذاته ووجوده؟ أبدًا .. إنّه لا يثبث ذاته إنما ينفيها، إنّه مجبر فقط! يفقد كرامته ليحافظ على نفسه من ذل السّؤال، خمسُ سنين من العمل الممل في ذلك المكتب الكئيب كفيلة لتدمر فكره! وتغيّر صاحبنا كثيرا، كان طموحًا موهوبًا والآن كل مواهبه اندثرت وسكنته حالة من التّعاسة والإغتراب حالة وجد فيها نفسه فاشلًا فاقدا القدرة على الخلق والإبداع.


وبذا يصبح الروتين مرضًا عضالا ينخر جسد المؤسسات الإدارية العربية فما السبيل لتجنب هذا الداء في العمل؟


"تقتضي الطريقة الأفضل لتجنب الروتين في العمل تعليم نفسك شيئاً جديداً كلّ يوم" -الخوري- الإنسان كائنٌ دائم النمو ليس بطنه فحسب، إنما تغذية دماغه أيضا التي تتم خلال تعلمه للمهارات والثّقافات الجديدة.

إعادة ترتيب فسحة العمل عبر تغيير اللوحات الحائطيّة أو تغيير أدوات العمل وتجديد الأهداف المرحلية للخطّة السّنوية.

الإستمتاع بالوقت وكمِثال على ذلك، ففي الولايات المتحدة الأميركية سوق سمك تدعى place Pikes حيث قرّر القائمون عليها، حين أشرفت على الإفلاس، تغيير طريقة بيع السمك فيها، فبدأوا بالغناء وقذف السمك في الهواء كلما بادر أحدهم إلى شراء السمك، وبذلك، بدأوا يستمتعون بعملهم ويجعلون العملاء الذين يشترون منهم السمك سعداء بدورهم وقد باتت اليوم هذه السوق مقصداً ومصدر جذب للناس وظاهرة مميزة في مجال الأعمال".

وأخيراً يحثّ "الخوري" على عدم اتباع رسائل الآخرين ومحاولة عيش حياتهم أو تقليدها، بل دعاهم للبحث عن رسالتهم، "فالحياة قصيرة إلا أنها مليئة بالفرص، وعلينا أن نعرف كيف نستفيد منها، والأهــم من كلّ ذلك، هو أن نعمل ما نحبّ وأن نحبّ ما نعمل".


ودمتم سعداء






0 التعليقات

إرسال تعليق