| 0 التعليقات ]


كرقّة ورقة خريفٍ داعبتها الرّياح على صفحة ماء هادئة تنساب في تناغم فريد وانسجام راقٍ مع ما حولها، وما إن تبدأ بالغناء حتّى تلج الدّهشةُ أفواه الجميع ويقفون مصفّقين لها.. وتستمّر الوردةُ المتفتّحة (سلمى) ذات السنوات العشر صادحةً بالنّشيد بصوتها المذهل الرّقيق دون أن تعاني من رهاب المسرح بابتسامة لطيفة لا تفارق محيّاها الغض!
في الوقت ذاته، تصبح  (جاكي إيفانكو) إحدى أفضل المواهب الغنائيّة في العالم من أوّل ظهور لها في برنامج (أمريكا لديها مواهب) وتنهال عليها مختلف العروض التّجارية والإعلاميّة من كل مكان وتجلس مع "باراك أوباما" في نفس الكرسي!
طبعًا نختلفُ ونتّفق مع المواهب التي تظهر على البرنامج إلّا أننا نتّفق -بل ضروري علينا أن نعترف- شئنا أم أبينا مع ثقافة احتضان المواهب المغيّبة عندنا والتّي يتميّز بها المجتمع الأمريكي أين تعتبر الموهبة بديهة من بديهيات الحياة، مجتمع يدرك أفراده ضرورة وجود المبدعين لتقويّة ركائزه الحضاريّة في صناعة "الإبداع".. مجتمعاتٌ تتعامل مع الإبداع كمطلب حيويّ ليست كتلك المجتمعات النّمطية التي ترى فيه مضيعة للوقت، تبدأ من نقطة وتنتهي إليها وتستلذ بوهم النّجاح في مسيرة يُخيّل لها أنها قطعتها!
مجتمعات وأد للأفكار واغتيال للمواهب، ترى في "المألوف" حماية لعقول النّاس.. لكنّ العقول لم تخلق لتُرعى كما ترعى الأغنام (وإن كان من الضّرورة الإرشاد والتّوجيه) إنما خلقت لتنطلق وتضج فيها أصوات الأفكار.. فالعقول السّليمة مساحاتٌ خصبة للأفكار!
في مجتمعاتنا العربيّة يندر أن تجد من يقول لك (أنت ناجح.. موهبةٌ رائعة) وأندر منه أن يأخذك فينميّك.. ولكن من السّهل جدًا أن لا تجد بيئة تحتضنك وإن حاولت تنميّة موهبتك وصقلها يحيط بك من يقول ( يا غبيّ، مضيّع وقتك في التّوافه.. غريب أطوار.. متخلف.. فاشل..) وغيرها ما نسمعه كلّ يومٍ من كلماتٍ سلبيّة جارحة متسببة في عاهات نفسيّة وفكريّة تجعل المبدعين لا يشعرون بالأمان المعرفي، متخلّين بذلك عن حقيقتهم ويتحوّلون إلى نسخٍ متكرّرة من الفشل والخمول!
محمّد موهبة أخرى في الّرسم ولم يتجاوز الحاديّة عشر من عمره، صمّم لي الطائرة من الدّاخل والخارج وكان قائد فريق المهندسين الذين سينشئون طائرة جزائرّية تهبط في مطار السينيا بوهران! بعد دورة ساعات قليلة عن التّخطيط كانت كفيلة بإحياء براكين الأمل فيهم.. وغيره الكثيرون!
أرى إنّ ثقافة التّحطيم والإحباط التّي تعاني منها مجتمعاتنا أساسها الجهل بأهميّة المبدعين ودور الموهوبين في صناعة الحضارة، وما (جاكي إيفانكو) إلّا مثالٌ لأفرادٍ وُهبوا الفرصة للتّعبير فربت الموهبة فيهم ونمتْ! كم من أم عندنا تجلسُ على ركبتيها لكي تكون في مستوى طفلها تنظر إلى عينيه وتصغي لحديثه باهتمام؟ كم فرصة منحت عندنا للشّباب للتّعبير عن مكنوناته دون تجاهل أو إهانات أو تحطيم للأمنيات؟ كم من برنامج جاد على شاشاتنا العربيّة في البحث عن الإبداع؟
أطفالنا وشبابنا لا يفتقرون للقدرات والمواهب، ولكنّهم يفتقدون إلى الثّقة التي سلبتها منهم البيئة المثبطة للعزائم، قيل قديمًا أنّ المواهب أشبه بالزهور، تحتاج إلى النسمة والشمس لتزدهر وتنمو، ولكنها تموت في الحجرات المظلمة، الشّمس هي المجتمعات الحيّة التي تمدّ المواهب بالثّقة وتمنحها الفرصة لكي تحقق ذاتها.. لسنا بحاجة لأنْ نردّ إلى أرذل العمر لنحصل على فرصة وليس علينا أن نموت ليحتفي بنا النّاس ويعرفوا قدرنا.. هنا والآن، في الروضة، في المدرسة، في البيت، في الجامعة، في العمل، في المؤسسات الحكوميّة وغيرها..
هي دعوة لاحتضان الشّموع التي تبدّد الظّلام!

0 التعليقات

إرسال تعليق